من الطموح إلى الأثر: دور القطاع الخاص في قيادة أجندة خفض الانبعاثات الكربونية

عندما طلب ريتشارد أتياس من أبرز القيادات الإعلامية العالمية وصف مؤتمر FII لهذا العام بكلمة واحدة، اختار اثنان منهم كلمة "الطموح". وبالفعل، كانت هذه الكلمة تعكس جوهر FII 2025، فالطموح لم يكن مجرد حالة شعورية سادت القاعة، بل كان نهجًا يوجّه النقاشات والالتزامات والشراكات التي شكّلت ملامح الحدث.

وبينما يتراجع جزء كبير من العالم عن أولوياته البيئية، تبرز المملكة العربية السعودية كاستثناء لافت.
فالقوى العاملة لدينا تُعد من الأكثر تفاؤلاً على مستوى العالم، مدفوعةً بقناعة راسخة بأن النمو الاقتصادي والاستدامة ليسا متعارضين، بل يعزّز كل منهما الآخر.

ومع دخولنا عام 2025، بات التوتر بين التقدّم والحفاظ على البيئة أكثر وضوحًا.
فالعام الماضي كان الأكثر حرارة في التاريخ المسجّل، وهو أول عام يتجاوز فيه متوسط درجة الحرارة السنوي حاجز 1.5 درجة مئوية. ومن الفيضانات في باكستان إلى حرائق الغابات عبر القارات، لم تعد المخاطر المناخية قضايا بعيدة.
كما أن منطقة الخليج، التي ترتفع فيها درجات الحرارة بوتيرة أسرع من المتوسط العالمي، تواجه مستوى أعلى من التعرض لهذه التحديات.

وفي الوقت نفسه، تحوّل التركيز العالمي نحو أمن الطاقة وتكلفة المعيشة والقوة التحويلية للذكاء الاصطناعي.
وهي أولويات مشروعة بلا شك، لكنها أيضًا عوامل تساهم في تسريع الانبعاثات.

ولهذا، تكمن أمامنا مفارقة واضحة: الابتكار والنمو اللذان يدفعاننا إلى الأمام، هما أيضًا ما يزيدان من بصمتنا الكربونية.
المطلوب ليس إيقاف التقدّم، بل إدارته بذكاء.وهنا تحديدًا، تقدّم أسواق الكربون حلًا عمليًا وفوريًا وقابلًا للتوسع.

تعمل أسواق الكربون على توجيه التمويل مباشرةً إلى المشاريع التي تُقلل أو تزيل انبعاثات ثاني أكسيد الكربون، بدءًا من إعادة التشجير واستعادة غابات المانغروف، وصولًا إلى احتجاز الكربون والطاقة المتجددة. ومن خلال وضع سعر حقيقي للكربون، تتحوّل الطموحات المناخية إلى قيمة اقتصادية ملموسة. وقد أثبتت التجربة أن الشركات التي تُعوّض انبعاثاتها طواعيةً تتقدّم في خفض بصمتها الكربونية بشكل أسرع من غيرها؛ ليس لأن أرصدة الكربون تُستبدل بالفعل المباشر، بل لأنها تعزّزه وتسرّعه.

هذه الرؤية هي الأساس الذي قامت عليه سوق الكربون الطوعية (VCM) التي أُطلقت بالشراكة بين صندوق الاستثمارات العامة ومجموعة تداول السعودية بعد إعلان سمو ولي العهد في عام 2021. وفي أقل من 1,000 يوم، قمنا ببناء منظومة كربونية عالمية تُعد من الأكثر تطورًا وديناميكية في هذا المجال انطلاقًا من الصفر. وقد تم بالفعل تداول أكثر من 10 ملايين رصيد كربوني، لتصبح المملكة اليوم ضمن أكبر ثلاث أسواق كربون طوعية عالميًا.

ما يجعل هذا التقدّم لافتًا حقًا هو دور القطاع الخاص. فاليوم، تشارك شركات سعودية تمثل أكثر من 65% من الانبعاثات الصادرة عن الشركات محليًا في تداول الكربون، في إشارة واضحة إلى التزام جماعي بقيادة الجهود المناخية.
ومن صناعة الإسمنت إلى الكيماويات، ومن المرافق العامة إلى الطيران، تثبت الشركات في المملكة أن إزالة الكربون يمكن أن تكون محركًا لـ تعزيز التنافسية، وتقوية المرونة، ورفع السمعة المؤسسية.

يتطلّب الطريق إلى الأمام مزيجًا من الابتكار والتنظيم، لكن القطاع الخاص هو من سيحدد وتيرة التقدّم.
فالجهات التي تبادر مبكرًا لن تكتفي بالاستعداد لمتطلبات الامتثال في المستقبل، بل ستسهم أيضًا في صياغة المعايير نفسها.

ذكّرنا مؤتمر FII أن الطموح ليس موقفًا نظريًا، بل عقلية قيادة وصنع أثر. ومع مواصلة المملكة الابتكار عند “الحد الفاصل” في التقاط الكربون المباشر (DAC)، وتقنيات ترشيد المياه، وإدارة النفايات الإلكترونية، والحلول الدائرية، تتجسد أمامنا فرصة لقيادة العالم نحو عمل مناخي واقعي وفعّال. ومن خلال توسيع نطاق أسواق الكربون الطوعية، وتسخير طموح القطاع الخاص، يمكننا تحويل الطموح إلى أثر قابل للقياس وضمان أن تكون قصة النمو في المملكة هي أيضًا قصة استدامة.